لا يعمل بالحساب لإثبات الشهور



الشَّرِيعَةَ اصطلاحًا هِيَ مَا شَرعَهُ اللهُ لِلأَنْبِيَاءِ وهي الأحكام التي تنزل بالوحي ثم تختلف باختلاف مصالح العباد على حسب ما أراد الله فهو تعالى يغيرها.
فالله أوحى إلى نبيه أن الأشهر تعرف بمراقبة الأهلِّة فإن غُمَّ علينا نتبع ما أوحى الله إلى نبيه بإكمال عدة الشهر ثلاثين يومًا فلم يأمر بالرجوع للحساب، فالله تعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبَّدكم به من ضيق بل وسَّع عليكم، لأن الحساب عمل يتكلف له أما مراقبة الأهلة فأمر سهل فلا يتكلف للمراقبة كما يتكلف للحساب، وأمر الحساب كان قديمًا وكان له شهرة حتى قبل البعثة ومع ذلك الله ما أمر نبيه العمل به، والله تعالى يعلم ما سيكون من خلقه فلا يخفى عليه شىء من أعمالهم، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا} وهذه الآلات التي يحسبون بها عَلِم الله أنهم سيستعملونها ومع ذلك ما أوحى للنبي أن يعمل بها وذلك تخفيفًا على الأمة.
فالله أمرنا باتباع النبي بما يقول، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، فمن يؤمن بالقرءان يعتقد صدق ما قاله النبي؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}، وكما أخبر الأَوْزَاعِيّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ. 
فمما أوحى الله به إلى نبيه أن يقول صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ"، وفي رواية: "فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ" وفي رواية: "فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ"، ورواية أخرى: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
فالمقصود بالتَّقدير: إكمال عِدة شهر شعبان أو رمضان، وذلك بجعل أيامهما ثلاثين يومًا، فيكون اليوم التالي تكملةً لشهر شعبان، واليوم الذي بعده الأول من رمضان.
كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الصيام قبل تحقُّق دخول شهر رمضان بالرؤية أو إكمال عدد شهر شعبان ثلاثين يومًا بقوله: "لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ". رواه أبو داود والنسائي.
وجاءت أدلة تُبيِّن سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية في هذه الحالة ومن ذلك: قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ". رواه أبو داود.
فالحساب وإن وجد ولكن لا يكون حجة لإثبات الصيام، ومنع الاعتماد على الحساب ليس تقبيحًا لهذا العلم، إنما لأن الشرع جاء بهذه الحكمة وتسليمنا ليس عجزًا لانقطاع الفكر عن ذلك إنما لأن الدليل قام بالتخفيف على الأمة وعدم تحميلها ما لا تطيق فسلمنا لذلك لأنه الحق.
وفي خبر ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا". يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ.
فقَوْلُهُ: "لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ" تَفْسِيرٌ لِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، وَقِيلَ لِلْعَرَبِ أُمِّيُّونَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْتُبُ وَيَحْسِبُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِيهِمْ قَلِيلَةً نَادِرَةً، وَالْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ النُّجُومِ وَتَسْيِيرِهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلًا، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ".

وَلَمْ يَقُلْ: فَسَلُوا أَهْلَ الْحِسَابِ. ولو أردنا سرد كل الأدلة في هذا من النقل ومن أدلة العقل لطال الكلام كثيرًا.
ولكن وللاختصار نتحدى الذين يتكلمون في أمر الحساب أن يأتوا بخبر واحد فيه إثبات العمل بالحساب؟ بل الخبر أن الذي يراعي العمل بالمراقبة هو من خيار عباد الله وليست هذه صفة من يعمل بالحساب.
وإن قالوا في المراقبة قد يحصل الاختلاف بين المطالع وهذا يثبت وذاك يغم عليه. فنقول له كذلك بين الحسابين يحصل هذا وهذا شىء مرئي وملموس لا يخفى على ذي بصر. وإن قالوا نريد أن نجمع المسلمين على يوم واحد في الصيام. نقول لهم هل تستطيعون أن تجموا المسلمين في كل الأرض على وقت واحد في صلاة الجمعة؟ والصلاة أفضل من الصيام.
فالجاهل يتكلم برأيه ومن شدة جهله يأتي ليصلح في الأمر فيفسد أكثر مما يصلح. فاتبع الشرع واترك كل خاطر، فشرع النبي بالوحي هو حاصل، نسأل الله السلامة في الدين والدنيا.

ليست هناك تعليقات